الأحد، 5 أكتوبر 2014

الرسالة الجدية

أكتب إليكم رسالتي الأولى وقد اختبرتُ الحياة مرة والموت مرات، أفصل فيها في الأشياء التي تعني الحياة، والأشياء التي لا تعنيها، والأشياء التي كُنّاها قبل الحياة، بعضهم قال غبار، وأنا أفضل رأي الذين قالوا  أن كل شيء كان غزل البنات من قبل.
أكتب إليكم عن تلك الحياة التي أخرجتموني من معاناتها ظانين أنكم تفعلون الصواب، ومتوهمين أنكم تحمونني، ناسين أن الألم بإبعادي عن الشعور بآلامكم ألم أكبر، ألم يشبه الإقصاء ويشبه التغريب، نفيتموني من مواطن آلامكم فترعرع فيّ ألمٌ لا يُقاس ولا يوزن.
أتعرفون ما تعني الحياة؟ وما يعنيه ما قبل الحياة؟ يعني أننا التقينا مرارًا وتكرارًا قبل الآن، يعني أن الروح التي عرفتكم سابقًا وعاشت معكم البداية وما عرفت غيركم ما عادت تدري إلى أين تذهب، لأن معنى الحياة اختفى عندها، لأن معاني ما قبل الحياة توقفت ثم تلاشت.
أتعرفون ما لا يعني الحياة؟ لا يعنيها أننا تكلمنا كثيرًا ونشبت بيننا مواقف مختلفة، لا يعنيها أننا أطلنا الانتظار حتى ساعات متأخرة من الليل، لا يعنيها أننا نبعد الستائر كل صباح لنرى الشمس والنور، لا يعنيها أننا نفرح وأننا نحتضن أحباءنا، وأننا نسمع الشعر، ونقوله، وأننا نكتب، وأننا نعد قهوة لشخصين في المساء، لا يعنيها أننا التقينا، وأننا ابتعدنا، وأننا غبنا، وأننا نسينا، ما دام لا ينتابنا الخوف من بعد هذا فإن الحياة لا يعنيها شيء منه.

أما بعد،،
فإن الموت هو الحقيقة، وإن الحياة هي الوهم، وإننا والله نركض خلف الوهم، وإننا نترك الحقيقة ونتجاهلها كل مرة، وإن ما يعنيه الموت أكبر وأعظم مما تعنيه الحياة، ولكني لا أعرف كيف أقوله لكم ولا كيف أفصل القول فيه، ولا كيف أكتب ذلك وأترجمه إلى شعوري وشعوركم.

في داخلي عتب، وفي عيني عيون من البكاء، وفي حياتي أحياء وميتون، وحلمي لا يحمل إلا الأحياء، أما الأموات فلا حاجة لي بهم ولا حاجة لهم بي، لأن التراب كفيل بزرعهم من جديد.
هل كان علينا أن نحلم أكثر؟ هل كان علينا أن نبقي الحياة قدر ما استطعنا في سباتنا الطويل وفي أحلامنا العميقة؟ هل كان علينا أن نفلت العمر الجميل والصبر الجميل والهجر الجميل؟ لأن أولئك الذين لا يكلفوننا حيواتنا لا يلزموننا بشيء، لأن أجمل العمر وأجمل الصبر وأجمل الهجر ما ثمنه الحياة.

لم يعد يحزنني الرحيل، ليس لأنني صرت أقوى بل لأنني أيقنت أن الراحلين يموتون عندما ينساهم الباقون، فحفظت أحبائي عن ظهر قلب، وأبقيتهم في كلامي وفي أحلامي وفي شعوري وفي لا شعوري، وفي عمري الحالي، وفي عمري القادم، كل راحليَّ لا يزالون أحياء، عرفت هذا ولم أعد أخشى ولم أستمرِرْ في الحزن، لأنهم صُنعوا على عيني وقلبي.

هذا والسلام.